وسائل التواصل الاجتماعي والصحة النفسية هل أصبح الاتصال الدائم سببًا للقلق؟
استعراض علمي معمّق لتأثير المنصات الرقمية على العقل والسلوك مدعوم بأحدث الدراسات
ي العصر الرقمي الحديث، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية. يستخدمها الأفراد للتواصل، الترفيه، تبادل الآراء، وحتى للعمل والتسويق. لكن مع هذا التوسع في الاستخدام، بدأ يتردد سؤال جوهري في الأوساط العلمية والاجتماعية: ما هو تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على الصحة النفسية؟
أظهرت العديد من الدراسات النفسية والسلوكية أن الاستخدام المفرط لمنصات مثل Instagram وTikTok وTwitter وFacebook يمكن أن يكون له عواقب نفسية خطيرة، لا سيما على الفئات العمرية الشابة. في هذا المقال، نستعرض بشكل علمي شامل العلاقة بين وسائل التواصل والصحة النفسية، مع تسليط الضوء على أبرز الأبحاث العالمية في هذا المجال
أولًا : ما المقصود بالصحة النفسية؟
الصحة النفسية لا تعني فقط غياب المرض العقلي، بل تشير إلى حالة من التوازن العاطفي والنفسي والاجتماعي، حيث يتمكن الفرد من التعامل مع ضغوط الحياة، والعمل بشكل منتج، وبناء علاقات صحية. أي اضطراب في هذا التوازن، سواء كان قلقًا، اكتئابًا، أو اضطرابًا في السلوك، يُعد مؤثرًا سلبيًا على الصحة النفسية
ثانيًا : لمحة عن انتشار وسائل التواصل الاجتماعي
وفقًا لتقرير “Digital 2024” الصادر عن شركة DataReportal، هناك أكثر من 5.04 مليار مستخدم نشط لوسائل التواصل الاجتماعي حول العالم، أي ما يعادل حوالي 62% من سكان العالم. ويقضي المستخدم في المتوسط ما يزيد عن ساعتين يوميًا على هذه المنصات
ثالثًا : كيف تؤثر وسائل التواصل على الصحة النفسية؟
(SOCIAL COMPARISON) ١ – المقارنة الاجتماعية
واحدة من أبرز التأثيرات السلبية تأتي من ما يُعرف بـ”المقارنة الاجتماعية”، حيث يميل الأفراد إلى مقارنة حياتهم اليومية بما يرونه من لحظات مثالية ينشرها الآخرون على وسائل التواصل. دراسة نُشرت في مجلة Journal of Social and Clinical Psychology عام 2018، وجدت أن تقليل استخدام وسائل التواصل إلى 30 دقيقة يوميًا يؤدي إلى انخفاض معدلات الاكتئاب والشعور بالوحدة بين الشباب.
٢ – القلق والاكتئاب
تشير دراسات متعددة إلى وجود علاقة ارتباطية بين الاستخدام المكثف لوسائل التواصل وزيادة مستويات القلق والاكتئاب. في دراسة أجرتها جامعة بنسلفانيا، لوحظ أن الطلاب الذين قللوا من استخدامهم اليومي لهذه المنصات أظهروا تحسنًا كبيرًا في مؤشرات صحتهم النفسية
٣ – اضطرابات النوم
الاستخدام الليلي لوسائل التواصل يساهم في اضطرابات النوم، خصوصًا عند التعرض للضوء الأزرق من الشاشات. حسب دراسة نُشرت في Sleep Health Journal عام 2020، تبين أن الاستخدام الليلي للهاتف يؤخر إفراز هرمون الميلاتونين، مما يؤدي إلى صعوبات في النوم واضطرابات المزاج
٤ – الإدمان الرقمي
الإدمان على وسائل التواصل أصبح ظاهرة حقيقية، ويشمل أعراضًا مثل القلق عند الانفصال عن الهاتف، والشعور بالحاجة المستمرة للتحقق من التنبيهات. منظمة الصحة العالمية (WHO) صنّفت “الاستخدام الإشكالي للإنترنت” كأحد التحديات الصحية العالمية، لما له من تأثيرات على الأداء الدراسي والمهني والعلاقات
رابعًا : التأثير على الفئات العمرية المختلفة
المراهقون
تُعد هذه الفئة الأكثر تأثرًا، حيث تشير تقارير مؤسسة Pew Research إلى أن أكثر من 90% من المراهقين يستخدمون وسائل التواصل يوميًا. ووفقًا لدراسة منشورة في JAMA Pediatrics عام 2019، فإن الاستخدام المفرط مرتبط بزيادة خطر الإصابة بالاكتئاب بنسبة 27%
البالغون
رغم أن البالغين قد يمتلكون أدوات أفضل لإدارة مشاعرهم، إلا أن الإفراط في استخدام وسائل التواصل يسبب مشكلات مثل الاحتراق النفسي، وقلة الإنتاجية، وتشتت الانتباه، خاصة بين العاملين عن بعد
كبار السن
وسائل التواصل قد تكون إيجابية لكبار السن من حيث تخفيف العزلة الاجتماعية، لكنها أيضًا قد تؤدي إلى تضليلهم بمعلومات خاطئة، وزيادة شعورهم بالحزن نتيجة لمقارنة حياتهم الحالية بما يرونه من حياة الآخرين
خامسًا : كيف يمكن تقليل الأثر السلبي لوسائل التواصل؟
١ – تحديد وقت الاستخدام
توصي الجمعية الأمريكية لعلم النفس (APA) باستخدام أدوات مراقبة الوقت مثل “SCREEN TIME” أو “DIGITAL WELLBEING” لتقليل الاستخدام إلى أقل من ساعة يوميًا
٢ – الصيام الرقمي
ممارسة فترات انقطاع مقصودة (DIGITAL DETOX) لمدة يوم أو يومين أسبوعيًا يُعد مفيدًا لإعادة التوازن النفسي
٣ – متابعة حسابات إيجابية
اختيار حسابات تبث الطاقة الإيجابية أو المحتوى التثقيفي بدلًا من تلك التي تروج للجمال المثالي أو الحياة المثالية
٤ – الاستعانة بالعلاج النفسي
أصبح من الشائع الآن إدراج تأثير وسائل التواصل ضمن الجلسات العلاجية، واستخدام تقنيات مثل العلاج المعرفي السلوكي (CBT) للتعامل مع القلق أو المقارنة الاجتماعية
سادسًا : الجانب الإيجابي لوسائل التواصل
رغم كل التحديات، لا يمكن إنكار أن وسائل التواصل تحمل أيضًا العديد من الفوائد تعزيز التواصل مع العائلة والأصدقاء دعم حملات التوعية بالصحة النفسية إنشاء مجتمعات دعم إلكترونية تسهيل الوصول إلى المساعدة المهنية دراسة نُشرت في CYBERPSYCHOLOGY, BEHAVIOR, AND SOCIAL NETWORKING أشارت إلى أن الأشخاص الذين ينضمون إلى مجموعات دعم عبر الإنترنت لأمراض نفسية معينة يشعرون بتحسن في حالتهم العاطفية
سابعًا : توصيات الباحثين والمؤسسات الصحية
جامعة هارفارد توصي بالاعتدال في استخدام وسائل التواصل، وممارسة التأمل الرقمي منظمة الصحة العالمية تدعو إلى تعزيز “الرفاهية الرقمية” (DIGITAL WELLBEING) كأولوية صحية عامة. اليونيسف شددت في تقريرها لعام 2022 على ضرورة تعليم الأطفال كيفية استخدام المنصات بوعي
المراجع العلمية المستخدمة
HUNT, M. G., MARX, R., LIPSON, C., & YOUNG, J. (2018). NO MORE FOMO: LIMITING SOCIAL MEDIA DECREASES LONELINESS AND DEPRESSION. JOURNAL OF SOCIAL AND CLINICAL PSYCHOLOGY
WOODS, H. C., & SCOTT, H. (2016). #SLEEPYTEENS: SOCIAL MEDIA USE AND POOR SLEEP. JOURNAL OF ADOLESCENCE
KELES, B., MCCRAE, N., & GREALISH, A. (2020). A SYSTEMATIC REVIEW: THE INFLUENCE OF SOCIAL MEDIA ON DEPRESSION, ANXIETY AND PSYCHOLOGICAL DISTRESS IN ADOLESCENTS. INTERNATIONAL JOURNAL OF ADOLESCENCE AND YOUTH.
ORBEN, A., & PRZYBYLSKI, A. K. (2019). THE ASSOCIATION BETWEEN ADOLESCENT WELL-BEING AND DIGITAL TECHNOLOGY USE. NATURE HUMAN BEHAVIOUR
PEW RESEARCH CENTER, TEENS AND SOCIAL MEDIA 2023
لا شك أن وسائل التواصل الاجتماعي غيّرت شكل حياتنا، وفتحت أبوابًا جديدة للتواصل والتعبير. لكن كما هو الحال مع كل أداة قوية، فإن استخدامها دون وعي أو رقابة قد يخلّف آثارًا نفسية خطيرة. التحدي الحقيقي اليوم ليس في التخلّي عن هذه الوسائل، بل في تعلم كيفية استخدامها بطريقة صحية وواعية
علينا أن نتذكر أن وراء كل منشور نراه على الإنترنت واقعًا لا نعلم تفاصيله، وأن الصحة النفسية تستحق منا اهتمامًا أكبر من مجرد الإعجابات والمشاركات
No Comments
Leave Comment